دكتور عبدالقادر سليم يكتب..الهجرة غير الشرعية في ميزان الشرع الشريف

وصف المدون

أحدث الأخبار:

 

دكتور عبدالقادر سليم يكتب..الهجرة غير الشرعية في ميزان الشرع الشريف
الدكتور عبدالقادر سليم 




الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على البشير النذير السراج المنير الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه حق قدره ومقداره العظيم أما بعد:

فإنَّ الله عزوجل قد أجرى هذا الكون على سننٍ كونيَّة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، ولا تعطي مسلمًا لمجرَّد إسلامه، وتمنع كافرًا لكفره، بل هي لا تُحابى أحدًا، ومن هذه السنن أنَّ رزق الله سبحانه وتعالى لا ينالُ إلا بالعمل، فمن عمل أُعطى ومن تكاسل مُنع، هذه بتلك، ولا يظلم ربُّك أحدًا.

والشريعة مع حثها على العمل وترغيبها فيه جاءت بحفظ الأنفس، وجعلت ذلك من الضرورات الخمس التي اتفقت الشرائع جميعًا على المناداة بها، فلا يحلُّ للمسلم أن يعمل عملا يعرض نفسه فيه للتَّلف، أو روحه للضياع كمن يهاجر هجرة غير شرعية، فيعرض نفسه للهلاك.. والسؤال الآن ما المراد بالهجرة غير الشرعية ؟  وما أهم الأضرار التي تنجم عنها ؟ وكيف يبتعد الإنسان عن مثل هذه المخاطر التي تعرضه للهلاك ؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه في هذا المقال بإن الله تعالى.

أولا: المراد بالهجرة غير الشرعية، ولماذا نهى الشرع عنها؟ 

الهجرة غير الشرعية –ويطلق عليها: (الهجرة السرية)، أو (الهجرة غير القانونية)- هي: دخول شخصٍ ما حدود دولة ما دون وثائق قانونية تفيد موافقة هذه الدولة على ذلك، ويتم ذلك عن طريق التسلل خفية عبر الطرق البرية أو البحرية أو باستخدام وثائق مزورة، ومن صور الهجرة غير الشرعية كذلك الدخول بوثائق مؤقتة بمدة، ثم المكث بعد هذه المدة دون موافقة قانونية مماثلة.

فهناك صنف من الناس يبيعون كل ما عندهم من العقارات والذهب والأموال ويدفعونها ليدخلوا بطريقةٍ غير شرعية إلى دولة أجنبية بحجة الحصول على الرزق، وأن بلادنا لم تَعُدْ تسعهم بأرزاقها، وليس لهم عملٌ فيها..وهؤلاء يقول الله عزَّ وجلَّ لهم:(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (195البقرة).

 فلا ينبغي لمسلم أن يُعرِّض نفسه بما لا قبل له به، وهم يعلمون علم اليقين أنهم مُعرضون للغرق في البحر في أي وقتٍ وحين.. هؤلاء يعلمون علم اليقين أنهم يعرضون أنفسهم للموت والغرق، وذاك ما لم يأمرهم به الله عزَّ وجلَّ. 

وإذا دخلوا إلى أي بلد يدخلوها هاربين، فيُعاملُون بأسوأ المعاملات، ويقعون في ذُلٍ ما بعده ذل، وقد قال صلى الله عليه وسلَّم: (إن الله ينهى المؤمن عن أن يذلَّ نفسه ـ قالوا: يا رسول الله وكيف يُذِّل نفسه؟ قال: يُعرِّض نفسه إلى ما لا يطيق)، لذلك نهى الشرع الشريف عن الهجرة غير الشرعية.

ما هي المخالفات والمفاسد التى تتضمنها الهجرة غير الشرعية؟ 

مما لا شك فيه أن الهجرة غير الشرعية على الوجه الذي يحدث في هذه الأيام تتضمَّن وتستلزم جملة من المخالفات والمفاسد؛ منها ما يلي:

أوَّلًا: ما في ذلك من مخالفة ولي الأمر، وهذه المخالفة غير جائزة؛ ما دام أنَّ ولي الأمر أو الحاكم لم يأمر بمُحَرَّم؛ فقد أوجب الله تعالى طاعة أولي الأمر فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]. والأدلة على هذا كثيرة.

فمَن أراد أن يهاجر من بلد إلى آخر، فعليه الالتزام بالقوانين التي أمر الحاكم أو مَن يُفوِّضه بالالتزام بها؛ وقد نَصَّ القانون المصري رقم (97) لسنة 1959م -والمعدَّل بعدة قوانين وقرارات آخرها القرار الوزاري رقم (19) لسنة 2022م-، في شأن جوازات السفر على أنَّه: لا يجوز لمصري مغادرة البلاد أو العودة إليها إلا إذا كان حاملًا لجواز سفر، ومن الأماكن المخصصة لذلك، وبتأشيرة على جواز سفره، ورَتَّب القانون عقوبةً على مخالفي هذا الحكم.

ثانيًا: ما يكون في بعض صورها من تعريض النفس للهلاك من غير مُسَوِّغ شرعي، وقد جاءت نصوص الشريعة بالنهي عن تعريض النفس للهلاك؛ ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].

ثالثًا: ما يترتب على هذا النوع من الهجرة من إذلال المسلم نفسه؛ فإنَّ الدخول إلى البلاد المهاجَر إليها من غير الطرق الرسمية المعتبَرة يجعل المهاجِرَ تحت طائلة التَّتَبُّع المستمر له من قِبَل سلطات تلك البلد، فيكون مُعرَّضًا للاعتقال والعقاب، فضلًا عما يضطر إليه كثير من المهاجرين غير الشرعيين من ارتكاب ما يُسِيء إليهم وإلى بلادهم، بل وأحيانًا دينهم، ويعطي صورة سلبية عنهم؛ كالتسول وافتراش الطرقات.

وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم المُسلمَ أن يُذِلَّ نفسه؛ فقد روى الترمذي -وحسَّنه- عن حذيفة بن اليَمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَنبَغي للمؤمِن أَن يُذِلَّ نَفسَه» قالوا: وكيف يُذِلُّ نَفسَه؟ قال: «يَتَعَرَّض مِن البلاء لما لا يُطِيق».

رابعًا: ما في هذه الهجرة من خرق للمعاهدات والعقود الدولية التي تنظم الدخول والخروج من بلد إلى آخر، وقد روى الترمذي في "سننه" -وقال: "حسن صحيح"- عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا».

خامسًا: ما يكون في بعض صورها من تزوير وغش وتدليس على سلطات الدولتين المُهَاجَر منها والمُهَاجَر إليها، وهو من باب الكذب، والكذب هو: الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عليه، والأصل فيه التحريم؛ وقد قال الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30].

وهذه المخالفات والمفاسد قد تجتمع كلها في صورة واحدة من صور الهجرة غير الشرعية، وقد يتخلف بعضها في بعض الصور، لكن لا تخلو صورة من صورها عن مفسدة منها، وتَحقُّق مفسدة منها في صورةٍ كافٍ للقول بالمنع والتحريم.

وبناءً على ذلك: فإنَّ الهجرة غير الشرعية على الوجه الذي يحصل الآن لا يجوز فعله أو الإقدام عليه شرعًا.

ثالثاً: كيف يبتعد الإنسان عن هذه المخاطر والمفاسد التي تعرضه للهلاك .

يبتعد الإنسان عن مثل هذه المخاطر من خلال العمل ، فقد حث الإسلام على العمل والسعي في الأرض لطلب الرزق الحلال بالطرق الشرعية .

وقد بيَّن الله عزَّوجل لأبى الأنبياء (آدم عليه السَّلام) أنَّ الراحة المطلقة لا تكون إلاَّ في الجنَّة، وأنَّه إن أُخرج من الجنَّة فإنَّه سيصيبه الشقاء والتَّعب ﴿ فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 117 - 119].

فالرَّاحة الحقيقية لا تكون إلا في الجنَّة، فأما الدنيا فلابُد فيها من العمل والتَّعب والتقلُّب لطلب الرزق​، وقد خلق الله عباده للعمل، فلا مكان في دين الله للبطالة، وليس الكسل دينًا، وما الكسل إلاَّ رذيلة خُلُقيَّة واجتماعيَّة تتأخَّر بها الأمم وتضيع بها قيمة الأفراد والمجتمعات.

لقد كان أشرف الخلق يعملون، فهؤلاء أنبياء الله ورسله، وهم صفوة الله من خلقه، وأحبُّ خلقه إليه، كانوا يعملون، فكان آدم عليه السلام فلاَّحا يحرث الأرض ويزرعها بنفسه، وهو الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته، ونوحٌ عليه السَّلام كان نجَّارًا، وإبراهيم عليه السلام كان بنَّاءً، وإدريس عليه السَّلام كان خيَّاطًا، وإلياس عليه السَّلام كان نسَّاجًا، وداود عليه السَّلام كان حدَّادًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السَّلام كانا يرعيان الغنم.

وليس في الإسلام عملٌ حقير، إنما يشرف العمل بإتقانه، والتَّفاني في تجويده، ويصير حقيرًا بخلوِّه من الإتقان والإحسان قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله يُحبُّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه) رواه البيهقي في "الشعب" وهو حديث صحيح.

فلم يحدِّد النبي عملًا يُحب الله من عبده أن يُتقنه، إنَّما جاء العمل نكرة في سياق الإثبات فأفادت الإطلاق، فأيُّ عمل مادام حلالًا فإنَّ الله يُحب ُّ من عبده أن يُتقنه.

ولقد جعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الكسب النَّاتج عن عمل اليد أشرف العمل فقال حين سأله بعض أصحابه: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) أخرجه الطبراني .

بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الطعام ما يأكله الإنسان نتيجة عمل يده فقال صلى الله عليه وسلم : ( ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري.

إنَّ الأمم العظيمة إنما تتقدَّم بالعمل وتزدهر بإتقانه، وتعلوا قيمتها بين الأمم بسواعد أبنائها، وإنما تتخلف الأمم بتكاسل أبنائها وخلودهم إلى الراحة والدعة.
ولقد أباح الإسلام لأبنائه أن يضربوا في الأرض سعيًا وراء لقمة العيش، وبحثًا عن الكسب الشريف قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].

بل أجاز العلماء السفر لطلب الرزق وإن كرهه الوالدان ولم يأذنا فيه، قال الإمام النَّووي رحمه الله في "المجموع": (إذا أراد الولد الَّسفر لطلب العلم فقد جزم المصنِّف في أوَّل كتاب السِّير بأنَّه يجوز بغير إذن الأبوين، قال: وكذلك سفر التِّجارة).

 يعنى السفر بطريق شرعي لا شبهة فساد فيه.

بيد أنني أقول لكل شبابنا أن في أرضنا ومصرنا والحمد لله خيراتٌ لا تُعدُّ ولا تُحدُّ لو عملنا، لكننا وشبابنا يريدون الحصول على الأموال بغير عمل ولا جهاد ولا إنتاج، بينما بلدنا يقول فيها الله على لسان يوسف نبيِّ الله:(اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الارْضِ) (55يوسف) لم يقُل خزائن مصر، فأعلمنا أن مصر فيها خزائن أرض الله جمعاء، لكن تحتاج إلى العلم للتنقيب عنها، والجهاد والعمل الشديد بخُطط علمية لاستخراجها والانتفاع بها.

صحراؤنا كلها مليئة في بطونها بخيراتٍ يحتاج إليها العالم أجمع، ولكن تحتاج إلى الكدِّ وإلى العمل، وشبابنا ينشغل بإخراج كنوز الفراعنة فيحفرون في بيوتهم حتى تقع عليهم، ويموتون لإخرج تمثال أو جزءٍ من تمثال، ولو حفروا مثل هذا في الصحراء لعمَّروها وأنبتت من خير الله الوفير، وأخرجت لهم الرزق الكثير، فإن مصر والحمد لله هي مهبط ومحِلِّ كنوز الأرض كلها، كما قال الله عزَّ وجلَّ.

يحتاج شبابنا إلى الجد في العمل، وإلى الإجتهاد في العلم، وإلى الحركة فإن الحركة فيها بركة، وهنا نجد كل شيء مُيسَّر في بلادنا، وتصير مصر كنزاً  لكل من حولها، كما كانت قبل ذلك في الأيام الخالية، فالعمل العمل حتى نرتقى ونسعد.

اللهم افتح لنا في بلادنا كنوز الخيرات، واجعلها خيرات مباركات، ووفِّق شبابنا للعمل الصالح على منهج الله، وعلى المتابعة لحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم​.

 الدكتور عبد القادر سليم 
مدير عام الدعوة ​بأوقاف كفر الشيخ
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

Back to top button